سورة القمر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {أكُفاركم} يا معشر العرب: أو: يا أهل مكة {خيرٌ من أُولئِكم} الكفار المعدودين في السورة؛ قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، والمعنى: أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم قوةً وآلةً ومكانةً في الدنيا، أو: كانوا أقلّ منكم كفراً وعناداً، فهل تطمعون ألاَّ يُصيبكم مثل ما أصابهم، وأنتم شر منهم مكانةً، وأسوأ حالاً؟ {أم لكم براءةٌ في الزُبُر} أم نزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدمة: أنَّ مَن كفر منكم وكذّب الرسول كان آمناً مِن عذاب الله، فأمِنتم بتلك البراءة؟
{أم يقولون نحنُ جميعٌ} أي: جماعة أمرنا جميع {منتصِرٌ} ممتنع لا نُرام ولا نُضام، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم، أي: أيقولون واثقين بشوكتهم: نحن أولو حزم ورأي، أمرنا مجتمع لا يقدَر علينا، أو: منتصرون من الأعداء، لا نغلب، أو: متناصرون، ينصر بعضُنا بعضاً. والإفراد باعتبار لفظ {جميع}.
{سيُهزم الجَمْعُ} جمع أهل مكة، {ويُولُّون الدُّبر} الأدبار. والتوحيد لإرادة الجنس، أو: إرادة أنّ كل منهم يُولّي دبره، وقد كان كذلك يوم بدر. قال عمر رضي الله عنه: لما نزلت: {سيهزم الجمع ويُولون الدبر} كنت لا أدري أي جمع يُهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يلبس الدرع، ويقول: {سيُهزم الجمع ويُولون الدبر} فعرفت تأويلها، فالآية مكية على الصحيح، {بل الساعةُ موعدُهُم} أي: ليس هذا تمام عقوبتهم، بل الساعة موعد أصل عذابهم، وهذا طلائعه، {والساعةُ أدْهَى وأَمرُّ} أي: أقصى غاية من الفظاعة والمرارة من عذاب الدنيا. والداهية: الأمر الفظيع الذي لا يُهْتَدَى إلى الخلاص منه، وإظهار الساعة في موضع إضمارها تربيةً لهولها.
{إِنَّ المجرمين} من الأولين والآخرين {في ضلالٍ} عن الحق في الدنيا {وسُعُرٍ} ونيران تحرق في الآخرة، أو: لفي هلاك ونيران مسعرة، {يوم يُسحبون في النار} يُجرّون فيها {على وجوههم} ويقال لهم: {ذُوقوا مَسَّ سَقَرَ} أي: قيسوا حرها وأَلمها، كقولك: وَجَدَ مسَّ الحمَّى، وذاق طعم الضرب؛ لأن النار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسهم مسّاً بذلك، و {سقر} غير مصروف للعلمية والتعريف؛ لأنها علم لجهنم، من: سقَرتْه النار: إذا لَوّحتْه.
الإشارة: ما قيل في منكري خصوصية النبوة، يُقال في منكري خصوصية الولاية إذا استغل بأذاهم، يعني: أنَّ مَن أنكر على الأولياء المتقدمين قد أصابهم ما أصابهم، إما ذُل في الظاهر، أو طرد في الباطن، وأنتم أيها المنكرون على أهل زمانكم مثلُهم. أمنتقدكم خير مِن أولئكم أم لكم براءة مِن العذاب في كتب الله تعالى؟ أم يقولون: نحن جميع، أي: مجتمعون على الدين، لا يُصيبنا ما أصاب الكفار، فيُقال لهم: سيُهزم جمعكم، ويتفرّق شملكم، وتُفضوا إلى ما أسلفتم، نادمين على ما فعلتم، ولن ينفع الندم حين تزل القدم، فتبقون في حسرة البُعد على الدوام، فالكفار حُرموا من جنة الزخارف، وأنتم تُحرمون من جنة المعارف، مع غم الحجاب وذُل البُعد عن الحضرة القدسية، إن المجرمين- وهم أهل الطعن والانتقاد- في ضلال عن طريق الوصول إلى الله، ونيران القطيعة، يوم يُسْبَحون على وجوههم، فينهمكون في الدنيا في الحظوظ والشهوات، وفي الآخرة في نار البُعد والقطيعة، على دوام الأوقات، ويقال لهم: ذُوقوا مرارةَ الحجاب وسوء الحساب، وكل هذا بقدر وقضاء سابق.


يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا كُلَّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ} أي: بتقدير سابق في اللوح قبل وقوعه، قد علمنا حالَه وزمانه قبل ظهوره، أو: خلقناه كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة، و {كل}: منصوب بفعل يُفسره الظاهر. وقرئ بالرفع شاذّاً، والنصب ألأولى؛ لأنه لو رفع لأمكن أن يكون خلقنا صفة لشيء، ويكون الخبر مقدراً، أي: إنا كل شيء مخلوق لنا حاصل بقدر، فيكون حجة للمعتزلة، باعتبار المفهوم، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله. فلم يسبق لها قدر، تعالى الله عن قولهم، المفهوم، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله. فلم سبق لها قدر، تعالى الله عن قولهم، ويجوز أن يكون الخبر: خلقناه، فلا حجة فيه، ولا يجوز في النصب أن يكون خلقنا صفة لشيء؛ لأنه يفسر الناصب، والصفة لا تعمل في الموصوف، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً. قال أبو هريرة: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخاصمونه في القدر، فنزلت الآية، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية، أي: على طريق الإخبار بالغيب.
{وما أَمْرُنا إِلا واحدةٌ} أي: كلمة واحدة، سريعة التكوين، وهو قوله تعالى: {كن} أي: وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلاّ أن نقول له: كن، فيكون، أو: إلاّ فِعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معالجة، {كلمح بالبصر} في السرعة، أي: على قد ما يلمح أحد ببصره، وقيل: المراد سرعة القيامة، لقوله تعالى: {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77].
{ولقد أهلكنا أشياعكم} أي: أشباهكم في الكفر من الأمم، وقيل: أتباعكم، {فهل من مُدَّكِر} من متعظ بذلك {وكلُّ شيءٍ فعلوه} من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل {في الزُبرِ} في ديوان الحفظة، {وكل صغيرٍ وكبيرٍ} مِن الأعمال، ومِن كل ما هو كائن {مُسْتَطَرٌ} مسطور في اللوح بتفاصيله.
ولمَّا بيَّن سوء حال الكفرة بقوله: {إن المجرمين...} إلخ، بيَّن حُسن حال المؤمنين، جمعاً بين الترهيب والترغيب فقال: {إِنَّ المتقين} أي: الكفر والمعاصي {في جناتٍ} عظيمة {ونَهَرٍ} أي: أنهار كذلك، والإفراد للاكتفاء بذكر الجنس، مراعاة للفواصل، وقرئ: {ونُهُر} جمع نَهَر، كأَسَد وأُسُد. {في مقعد صدقٍ} في مكان مرضيّ، وقرئ {فيمقاعد صدق}، {عند مليكٍ مقتدرٍ} أي: مقربين عند مليك قادر لا يُقادَر قدر ملكه وسلطانه، فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته، سبحانه، ما أعظم شأنه. والعندية: عندية منزلة وكرامة وزلفى، لا مسافة ولا محاسّة.
الإشارة: هذه الآية وأشباهها هي التي غسلت القلوب من الأحزان والأغيار، وأراحت العبد من كدّ التدبير والاختيار؛ لأنّ العاقل إذا علمَ عِلم يقين أن شؤونه وأحواله، وكل ما ينزل به، قد عمّه القدر، لا يتقدّم شيء عن وقته ولا يتأخر، فوَّض أمره إلى الله، واستسلم لأحكام مولاه، وتلقى ما ينزل به من النوازل بالرضا والقبول، خيراً كان أو شرّاً، كما قال الشاعر:
إِذا كانتِ الأَقْدارُ مِن مَالكِ المُلْكِ *** فَسِيَّان عِندي مَا يَسرُّ وما يُبكي
وقال آخر:
تَسَلَّ الْهُمومِ تَسل *** فَما الدُّنيا سِوى ثوبٍ يُعارُ
وسَلِّم للمُهَيْمنِ في قَضَاهُ *** ولاَ تَخْتَرْ فلَيْسَ لَكَ اخْتِيارُ
فَما تَدرِي إِذا ما الليْلُ وَلَّى *** بِأَيِّ غَريبةٍ يَاتِي النَّهار
وقوله تعالى: {وما أَمْرُنا إِلا واحدةٌ..} إلخ، هذا في عالمَ الأمر، ويُسمى عالم القدرة، وأما في عالم الخلق، ويسمى عالَم الحكمة، فجُلّه بالتدريج والترتيب، ستراً لأسرار الربوبية، وصوناً لسر القدرة الإلهية، ليبقى الإيمان بالغيب، فتظهر مزية المؤمن؟ ويُقال لأهل العناد المُتجبرة: ولقد أهلكنا أشياعكم؛ إما بالهلاك الحسي، أو المعنوي، كالطرد والبُعد، فهل من متعظٍ، يرجع عن عناده؟ وكل شيء فعلوه في ديوان صحائفهم، وكل صغير وكبير من أعمال العباد مسطورة في العلم القديم. إنَّ المتقين ما سوى الله، في جنات المعارف، وأنهار العلوم والحِكَم، في مقعد صدق، هو حضرة القدس، ومحل الأنس، عند مليك مقتدر. قال الورتجبي: مقامات العندية جنانها زفارف الأنس، وأنهارها أنوار القدس، أجلسهم الله في بساط الزلفة والمداناة، التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر، ولا يزول عنها بالتستُّر والحجاب؛ لذلك سماه {مقعد صدق} أي: محل كرامة دائمة، ومزية قائمة، ومواصلة سرمدية، والله مقدّر قادر. انظر تمام كلامه.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

1 | 2 | 3